العلوم البيولوجية والتجريبية :
أصل الخلاف في الموضوع: اختلف الفلاسفة في هذا الموضوع حول امكانية تطبيق المنهج التجريبي (العلمي) على الكائنات الحية وانقسموا إلى قسمين:
القسم الأول: يعتقد أنصاره من الفلاسفة وبزعامة كوفيي أنه لا يمكن إخضاع المادة الحية إلى التجربة وبالتالي دراستها دراسة علمية، وقد وضعوا لذلك عدة عوائق.
القسم الثاني: يعتقد بعض الفلاسفة أنه يمكن تطبيق المنهج التجريبي على الكائنات الحية وبالتالي تجاوز العوائق نحو الدراسة العلمية للمادة الحية.
حجج القسم الأول: (عوائق تطبيق المنهج التجريبي على الكائنات الحية):1) يعتقد بعض الفلاسفة أنه لا يمكن تطبيق المنهج التجريبي على الكائنات الحية بنفس الكيفية التي يتم تطبيقه على المادة الجامدة إذ تعترض ذلك جملة من الصعوبات والعوائق بعضها يتعلق بطبيعة الموضوع المدروس وهو المادة الحية وبعضها الآخر يتعلق بطبيعة خطوات المنهج التجريبي عليها (عرض الموقف كفكرة) .
2) إن الكائن الحي له طبيعة معقدة لأن المادة الحية تتكون من مجموعة من الأعضاء تتداخل وتتكامل مع بعضها البعض إلى درجة التعقيد مما يجعل عملية التحليل أمرا صعبا.
3) إنه لا يمكن ملاحظة العضوية ككل نظرا لتشابك وتعقد وتداخل وترابط الأجزاء العضوية فيما بينها مما يحول دون ملاحظتها ملاحظة علمية دقيقة خاصة عند حركتها أو أثناء قيامها بوظيفتها، كما لا يمكن ملاحظة العضو معزولا لأنها تكون ناقصة غير شاملة مما يفقدها الصفة العلمية.
4) إذا كان الباحث في ميدان المادة الجامدة يستطيع اصطناع الظاهرة وإعادتها وقت ما شاء ففي المادة الحية يصعب إعادة التجربة لأن إعادتها لا تؤدي دائما إلى نفس النتيجة. مثال ذلك: إن حقن فأر بـ 1cm3 من المصل لا يؤثر فيه المرة الأولى وفي الثانية قد يصاب بصدمة عضوية والثالثة قد يؤدي إلى موته، مما يعني أن نفس الأسباب لا تؤدي إلى نفس النتائج في علم البيولوجيا.
5) إذا كانت الظاهرة الجامدة سهلة التصنيف بحيث يمكن التمييز فيها بين ما هو فلكي أو فيزيائي أو جيولوجي وبين أصناف الظواهر فإن التصنيف في المادة الحية يشكل عقبة وصعوبة، وتعود هذه الصعوبة إلى أن كل كائن حي له خصائص ينفرد بها عن غيره وكل محاولة للتصنيف تكاد تقضي على الفردية وتشوه طبيعة الموضوع.
6) إنه لا يمكن تعميم النتائج في العلوم البيولوجية ذلك أن كل كائن حي له خصائص معينة يتميز بها عن بقية الكائنات حيث يقول لايبينتز (فيلسوف فرنسي): " لا ليوجد فردان متشابهان" فما يصدق على الحيوان المختبر لا يصدق على الحيوانات الأخرى.
7) إنه قد يتم الحصول على نتائج معينة من تجارب استخدمت على كائن حي من جنس واحد ثم إذا تم الحصول على قوانين تم سحبها أو تعميمها على جميع الكائنات الداخلة مع هذا الكائن الحي في الجنس الواحد أو النوع الواحد وهذا تعسف واضح لا، الكائنات الحية ليست لها خصائص واحدة.
يتميز كل كائن حي بأن كل عضو فيه تابع للكل ويكمل بقية الأعضاء وإذا عزلناه فإن ذلك يؤدي حتما إلى إفساد طبيعته لذلك يقول كوفيي(فرنسي): "إن أجزاء الكائن الحي مرتبطة فيما بينها فهي لا تستطيع الحركة إلا بقدر ما تتحرك معا وإن الرغبة في فصل جزء عن الكلية معناه نقله إلى نظام الذوات الميتة وتبديل ماهيته تبديلا تاما".
9) إن هنالك صعوبة في تطبيق خطوات المنهج التجريبي على المادة الحية فالملاحظة العلمية مثلا لها عدة قواعد منها الدقة والشمولية ومتابعة الحادثة البيولوجية في جميع مراحلها لكن ذلك يبدو صعبا في المادة الحية.
نقد القسم الأول: 1) إن المنهج التجريبي القائم على مبدأ الحتمية مكن العلماء في مجال الكائنات الحية من تحقيق تقدم مذهل بلغ قمته عند تسخير المورثات لعملية الإستنساخ.
2) إن المادة الحية تتكون من نفس العناصر الكيميائية للمادة الجامدة وبالتالي يمكن تفسيرها تفسيرا فيزيائيا وكيميائيا خاصة إذا علمنا أن لأوكسجين يدخل في تركيب الجسم بـ 70% والكربون بـ 18% والهيدروجين بـ 12% وبالتالي يمكن إخضاعها للمنهج العلمي.
3) إذا كنا لم نتمكن من اكتشاف قوانين المادة الخام إلا بالتغلغل في الأجسام إنه لا يمكن الوصول إلى قوانين وخصائص المادة الحية إلا بتفكيك العضويات الحية على عكس ما يعتقد للنفوذ في دواخلها.
حجج القسم الثاني: (يمكن تطبيق المنهج التجريبي على الكائنات الحية):
1) يعتقد بعض الفلاسفة أنه يمكن إخضاع المادة الحية للمنهج التجريبي حيث أن علماء البيولوجيا أكدوا على اتخاذ التجربة كمنهج علمي لهم جعلهم يتحدون الصعاب التي واجهتهم في دراسة الكائن الحي وبالتالي تجاوز العوائق المنهجية التي صادفت المادة الحية في المنهج العلمي.
2) إنه يمكن استثمار طريقة التجريب الموجودة في المادة الجامدة وتكييفها في دراسة المادة الحية مع الحفاظ على خصوصية هذه المادة حيث يقول كلود بيرنارد: " لا بد لعلم البيولوجيا أن يأخذ المنهج التجريبي للعلوم الفيزيائية والكيميائية ولكن مع الاحتفاظ بحوادثه الخاصة".
3) إن التجارب التي قام بها كلود بيرنارد حول بول الأرانب والتي بين فيها بأن المادة الحية تخضع لمبدأي الحتمية والاضطراد كالظواهر الجامدة وبالتالي يمكن دراستها دراسة تجريبية وتفسيرها تفسيرا سببيا للوصول إلى القوانين التي تحكمها حيث يقول كلود بيرنارد: "إن جميع الحيوانات الآكلة العشب إذا فرغت بطونها تغذت على المواد المدخرة في أجسامها وهي عبارة عن بروتينات...".
4) إن التقدم العلمي والتطور التكنولوجي الذي عرفه القرن الماضي ساعد العلماء على القيام بالملاحظات والتجارب العلمية وهذا باستعمال الآلات والوسائل التقنية كالمنظار الطبي وغيرها من الوسائل التي سمحت بملاحظة أعضاء الكائن الحي أثناء وظيفتها حيث يقول كلو بيرنارد: " إن للملاحظ والمجرب هدفا واحدا وهو إدراك الحوادث بالوسائل العلمية الدقيقة".
5) إن التطور العلمي للوسائل سمح بالقيام بعدة تجارب مثل تجارب التهديم التي تقوم على قطع واستئصال أعضاء الكائن الحي قصد التعرف على وظيفتها وتأثيرها على بقية الأعضاء.
6) أصبح بالإمكان اليوم فصل الأعضاء مع الحفاظ عليها مثال: يمكن فصل القلب اليوم وإبقائه حيا مدة من الزمن حيث يقول كلود بيرنارد: " إن إنكار تحليل الكائنات الحية عن طريق التجربة هو إنكار للمنهج التجريبي وإيقاف للعلم".
7) بفضل المنهج التجريبي (العلمي) صحح الطبيب باستور الفكرة القائلة بالنشوء العفوي للجراثيم مثبتا أن منشأها الحقيقي هو الهواء بفضل طريقة التلازم في الغياب والتلازم في الحضور، كما استطاع بفضل نفس المنهج أن يقضي على مرض الجمرة الخبيثة.
إنه هناك سهولة في تطبق المنهج التجريبي على الكائنات الحية بدليل أن بعض العلماء عوضوا التجارب بالملاحظات العلمية مما مكن من تطويع المنهج التجريبي لكي يتلاءم مع طبيعة المادة الحية.
نقد حجج القسم الثاني: 1) إن الكائن الحي لا يكون هو هو إلا في محيطه الأصلي ويكفي أن ننقله إلى محيط اصطناعي حتى يتغير سلوكه وهذه نقطة تشكك في مصداقية التجريب على الكائنات الحية.
2) إن المنهج التجريبي يشوه طبيعة الموضوع عند دراسة الكائن الحي فمثلا في دراسة الخلايا والأنسجة لا بد من قتلها وتثبيتها وتلوينها قبل أن توضع تحت المجهر وقتلها وتثبيتها وتلوينها يعني حتما إفسادها.
3) إن النزعة الكيميائية والفيزيائية للمادة الحية تتجاوز حدود الفيزياء والكيمياء لأن الظاهرة الحية ليست تفاعلا أعمى بل إن هذا التفاعل يقصد إلى غاية معينة وهي توازن العضوية.
4) إن هناك مجموعة من الموانع الأخلاقية والقانونية والدينية التي تضع التجريب على الكائنات الحية ما يشكل عائقا حقيقيا لا يمكن تجاهله أو التغاضي عنه.
